نجوت من الموت
كان السيد إدوار يتمتع بكل الامتيازات التي يقدرها العالم. شباب، غنى، وجه جميل، صفات محبوبة، وكل هذه الصفات جعلته قبلة الجميع. وها هو الآن يدخل إلى العالم.
منذ الحداثة اهتم ذووه بآدابه فحرصوا على تنشئته بحسب الفضائل المسيحية. وكان موضوعاً لصلواتهم، حتى يحفظه الرب من فخاخ هذا العالم. ولكن فيما هو يتقدم في السن، نظر إلى الحياة الاستقلالية التي كان يعيشها غيره من الشبان وقابلها بالحياة الهادئة المتحفظة، التي عاشها إلى اليوم، فتراءت له إنها حياة رتيبة ومملة. وشيئاً فشيئاً حرر نفسه من الإجراء الذي فُرض عليه.
لم يجد صعوبة في إيجاد رفقاء المسرات والحماقة لكي يوغلوه في سبل الطيش، التي لا تؤدي إلا إلى الخراب، والجهالة والخفة. وفي هذه الحال يكون الإنسان بلا شك فريسة سهلة المنال بالنسبة للمجرب.
ولكن كانت له أم تصلي لأجله. والرب استخدم الظرف الذي سأتكلم عنه، لكي يستجيب الصلوات التي رُفعت من أجله.
أيها الأمهات المؤمنات، لا تتوقفن عن الصلاة لأجل نفوس أولادكن!
كان إدوار قد جاء إلى دبلن عند رئيس مصرفه، الثري الكبير ووالد رفيقه في الدراسة ليمضي بعض الوقت.
- ماذا يا إدوار، سأله رفيقه القديم، كيف تسلك طريقك في هذا العالم.
آه! يا عزيزي، أجاب إدوار بحماس. إننا نعيش حياة رائعة. مراقص، مآدب، سهرات، رحلات صيد، وحفلات سباق، وغير ذلك من الحفلات السارة، التي تبعدنا عن الضجر. والساعات تمر بنا مبهجة بحيث لا نلاحظ فيها سوى قصرها.
فيما إدوار يتكلم كان صديقه يرمقه بنظرة كلها عطف. وكان قلبه يفيض إشفاقاً وهو يرى أن هذا الشاب الجميل المحبوب يجهل تفاهة هذه المسرات، والنتيجة التي تنتظره. ماذا يمكن أن يُقال لنفس كهذه؟ وبعد لحظات من الصمت قال:
- أرى يا إدوار أنك تلهو كثيراً؟ إن ما قلته يذكرني بكلمات حكيم من القدماء: «اِفْرَحْ أَيُّهَا ٱلشَّابُّ في حَدَاثَتِكَ، وَلْيَسُرَّكَ قَلْبُكَ فِي أَيَّامِ شَبَابِكَ وَٱسْلُكْ فِي طَرِيقِ قَلْبِكَ وَبِمَرْأَى عَيْنَيْكَ» (جامعة 11: 9).
يبدو أن هذه الكلمات وجدت لها رضى في صميم إدوار فقال في نفسه: هذا ما أبغيه فعلاً.
ولكن صديقه لم يلبث أن استطرد مشدداً على كل كلمة.
- «وَٱعْلَمْ أَنَّهُ عَلَى هٰذِهِ ٱلأُمُورِ كُلِّهَا يَأْتِي بِكَ ٱللّٰهُ إِلَى ٱلدَّيْنُونَةِ. «فَٱنْزِعِ ٱلْغَمَّ مِنْ قَلْبِكَ، وَأَبْعِدِ ٱلشَّرَّ عَنْ لَحْمِكَ، لأَنَّ ٱلْحَدَاثَةَ وَٱلشَّبَابَ بَاطِلاَنِ» (جامعة 11: 9 و10).
وهكذا لم تكن الكلمات موافقة لما كان يتوقعه إدوار، فانسحب من حضرة صديقه، وابتعد سريعاً كأنه أراد الهرب من الكلمات التي سمعها.
ولكن السهم الذي أُطلق من يد الله، أصابه في الصميم، ولم يكن في وسعه أن يتملص منه.
وفي منزله، حاول إدوار عبثاً أن يتخلص من الشعور المؤلم الذي خلقته هذه الكلمات في نفسه. وخصوصاً حين فكر في ندمائه الذين سيراهم قريباً.
وأيضاً، لما عاد إلى مجرى حياته الصاخبة حاول عبثاً أن يستعيد المرح والبهجة.
فالأشياء التي كان في السابق يجد فيها المتعة، فقدت طعمها. والكلمات الأخيرة التي سمعها من صديقه، كان صداها يتردد في خاطره بدون انقطاع.
في الصيد، في المرقص، في السهرات التي يتخللها ألف تنوُّع كان يسمع : «واعلم أن على هذه الأمور كلها يأتي بك الله إلى الدينونة».
وفي اليقظة كما في النوم كان يُخيَّل له أنه يرى هذه الكلمات كأنها مكتوبة بأحرف من نار.
فروح الله ابتدأ عمله في كيانه، ومشيئته تعالى أن يتمم هذا العمل.
طوباك أيها القارئ شاباً كنت أم مسناً، إن كان الله يتعامل معك هكذا.
لا تحاول أن تعمل لإطفاء هذا الصوت الذي يدعوك. لا تطرد من ذهنك الفكر عن الله وعن الأبدية.
لم تستطع المسرات التي كان إدوار يتذوقها أن تخفف عنه الآلام النفسية. على العكس فهذه كانت تزداد يوماً بعد يوم حتى فقد كل شعور بالراحة.
وهذه المسرات التي أحاط نفسه بها، صارت بالنسبة له غير محتملة.
ما العمل في مثل هذه الحيرة؟
- سأذهب إلى دبلن - يجب أن أرى تيوفيل، إنه هو الذي أراني تفاهة كل هذه المسرات.
وهكذا أسرع بالذهاب إلى صديقه، الذي استقبله بكل ترحاب.
- إنني بائس جداً. منذ أن رأيتك لآخر مرة، قال إدوار. قبلاً لم أفكر مطلقاً في المستقبل. كنت أعيش كلياً في متع الحاضر، متوهماً أن الأشياء التي تملأ حياتي كلها أشياء بريئة. والآن أشعر بأنها لاشيء، إنني أرى الآن إنها لم تكن إلا لتنسيني الله. كانت تخدم أنانيتي وتستهلك وقتي، بانتظار القضاء على حياتي في النهاية. وشر ما فيها إنها كانت تحجب النور عن عيني، فلا أرى حقائق الأبدية والدينونة الآتية.
ما العمل؟
إن هذه الأبدية تنتصب أمامي وكأنها مغطاة بحجاب سميك، إنها لا تقدم لي إلا الظلمة. بدون أي شعاع من نور. إنني أشعر أن دينونة مخيفة معلقة فوق رأسي.
قل لي يا صديقي، كيف يمكنني أن أنجو؟
متأثراً من الحيرة التي اعترت إدوار، أخذ صديقه كتابه المقدس، ومن كلمة الله الحية أخذ بيبِّن له كيف أن يسوع أخذ على الصليب مكان الخاطي المذنب الهالك. وكيف أنه مات لأجله متحملاً حكم الدينونة الذي نستحقه جميعاً.
وبعد لحظة من الصمت قرأ له من كتاب الله الفقرات الثمينة التالية:
- «وَلٰكِنَّ ٱللّٰهَ بَيَّنَ مَحَبَّتَهُ لَنَا، لأَنَّهُ وَنَحْنُ بَعْدُ خُطَاةٌ مَاتَ ٱلْمَسِيحُ لأَجْلِنَا» (رومية 5:
.
- «فَإِنَّ ٱلْمَسِيحَ أَيْضاً تَأَلَّمَ مَرَّةً وَاحِدَةً مِنْ أَجْلِ ٱلْخَطَايَا، ٱلْبَارُّ مِنْ أَجْلِ ٱلأَثَمَةِ، لِكَيْ يُقَرِّبَنَا إِلَى ٱللّٰهِ» (1 بطرس 3: 18).
- «إِذاً نَسْعَى كَسُفَرَاءَ عَنِ ٱلْمَسِيحِ، كَأَنَّ ٱللّٰهَ يَعِظُ بِنَا. نَطْلُبُ عَنِ ٱلْمَسِيحِ: تَصَالَحُوا مَعَ ٱللّٰهِ. لأَنَّهُ جَعَلَ ٱلَّذِي لَمْ يَعْرِفْ خَطِيَّةً، خَطِيَّةً لأَجْلِنَا، لِنَصِيرَ نَحْنُ بِرَّ ٱللّٰهِ فِيهِ» (2 كورنثوس 5: 20 و21).
- قال يسوع: «اَلْحَقَّ ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ مَنْ يَسْمَعُ كَلاَمِي وَيُؤْمِنُ بِالَّذِي أَرْسَلَنِي فَلَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ، وَلاَ يَأْتِي إِلَى دَيْنُونَةٍ، بَلْ قَدِ ٱنْتَقَلَ مِنَ ٱلْمَوْتِ إِلَى ٱلْحَيَاةِ» (يوحنا 5: 24).
- «وَتَنْتَظِرُوا ٱبْنَهُ مِنَ ٱلسَّمَاءِ، ٱلَّذِي أَقَامَهُ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ، يَسُوعَ، ٱلَّذِي يُنْقِذُنَا مِنَ ٱلْغَضَبِ ٱلآتِي» (1 تسالونيكي 1: 10).
آمن إدوار بكلمة الله.
لقد رأى بأنه لا يستحق سوى غضب الله وحكم الدينونة، ولكنه آمن أيضاً أن الكتاب يقول: بما أن يسوع قاسى من أجله آلام الموت والدينونة فعدل الله قد وفى حقه، وأنه هو إدوار يمكنه أن يتمتع بالغفران والخلاص اللذين أكملهما يسوع لأجله.
وبالفعل ففي تلك اللحظة التي آمن فيها امتلأ قلبه بالفرح والسلام.
والآن يمكنه أن يتابع طريقه في سعادة على الأرض بانتظار الأبدية التي لم تعد تخيفه.
ولكن في سلوك هذا الدرب الجديد، كم كان في حاجة إلى كل عون الرب!
في بادئ الأمر لم يحط أصدقاءه علماً بالتغيير الذي حصل في حياته، لأن الشيطان وسوس في صدره الفكرة في أن يخفي الأمر، قائلاً له:
- أنت الآن مرتاح، لا حاجة لك أن تبدي لهم أفكارك الشخصية.
وهكذا كتم أمره عنهم لمدة من الزمن. ولكنه لم يكن سعيداً، وكان يشعر في أعماقه بأنه ليس من الاستقامة في شيء أن يكتم أمر إيمانه وأنه لضرب من الجبن، أن يستحي أحد بإنجيل المسيح. بينما عدد كبير من الناس، يحتاج إلى الاستنارة به.
وذات يوم فيما هو عائد إلى فندقه من اجتماع ديني، وكتابه المقدس في يده، شاهد بعضاً من أصحابه القدماء العالميين مع جماعة من الضباط واقفين في شرفة الفندق.
- إنهم سيهزأون بك، هكذا ألقى المجرب في ذهنه - ومن جهة أخرى، فإن حمل الكتاب المقدس باليد نوع من المفاخرة على الناس - ضعه في جيبك...
وهكذا وقع في التجربة التي ساقها إليه عدو الصلاح، فصعد مسرعاً درجات السلم المؤدية إلى الشرفة. ولكنه نسي أنه كان يرتدي لباساً من النوع الضيق، بحيث يحدث وجود الكتاب المقدس في جيبه انتفاخاً كبيراً في جسمه.
- ماذا معك هنا يا إدوار؟ سأله أحد هؤلاء الشبان. وكمن بوغت وأصيب في وجدانه، وضع إدوار كل الخوف جانباً، وأخرج الكتاب المقدس من جيبه واعترف أمام الجميع بأنه قد سلم حياته للرب، وأنه يرغب في أن يكون خادماً للمسيح.
بهذا الاعتراف العلني أراح ضميره لأنه أطاع كلمة الله القائلة: «وَأَقُولُ لَكُمْ: كُلُّ مَنِ ٱعْتَرَفَ بِي قُدَّامَ ٱلنَّاسِ، يَعْتَرِفُ بِهِ ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ قُدَّامَ مَلاَئِكَةِ ٱللّٰهِ. وَمَنْ أَنْكَرَنِي قُدَّامَ ٱلنَّاسِ، يُنْكَرُ قُدَّامَ مَلاَئِكَةِ ٱللّٰهِ» (لوقا 12: 8 و9).
ومن جديد كان سعيداً.
ولكن هذه السعادة كانت بداية لهجمات مختلفة، شنها عليه المجتمع والعالم. وهذا ليس بغريب، بل الغريب أن لا يحصل! وهذا النوع من الحكم له من حذاقة مصدّرية ما يسيء اجتماعياً، إلى كل من يريد أن يعيش لأجل المسيح.
منذ تلك الساعة انطلق إدوار يكلم الجميع، أغنياء وفقراء عن يسوع وعن حبه، ويكرز بالإنجيل، الأمر الذي جعله أكثر سعادة وأشد احتمالاً لهجمات أضداد المسيح، الذين ازدادوا ضراوة في التهجم عليه. حتى أن بعضهم أخذوا بالغيظ الحاقد، حتى حاولوا القضاء عليه.
وذات مساء حملت إليه رسالة، يطلب فيها حضوره إلى مكان منعزل. وكان في الأمر مؤامرة يقصد بها إبعاده عن منزله.
وفيما هو ذاهب على فرسه إلى المكان المعيَّن أُطلقت عليه رصاصة. كان التصويب محكماً، بحيث أن الرصاصة أصابته في صدره لجهة القلب. واخترقت ثيابه. وقد ظن أعداؤه بأنه قد قتل فهربوا من مكمنهم ولكنه لم يُصب بأي أذى لأن الرصاصة وجدت في طريقها الكتاب المقدس الذي كان يحمله في جيب سترته الداخلي، فأنقذ حياته.
وقد أرى الكثيرين من زائريه وبكل احترام هذا التذكار الثمين، الدال على رأفة الآب السماوي.
كانت الرصاصة قد اخترقت غلاف الكتاب العزيز ومعظم صفحاته، وتوقفت عند الإنجيل بحسب يوحنا، عند كلمة المسيح في صلاته الشفاعية: «أَيُّهَا ٱلآبُ ٱلْقُدُّوسُ، ٱحْفَظْهُمْ فِي ٱسْمِكَ. ٱلَّذِينَ أَعْطَيْتَنِي» (يوحنا 17: 11).
أيها القارئ العزيز،
كم هو جدير بك أن تضع أمام عينيك الآية، التي لاشت الجبن من نفس هذا الشاب إدوار. وأن تتأمل فيها تاركاً لها المجال لكي تعمل في ضميرك، وتأتي بك إلى يسوع. لكي تجد السلام.
وإن كانت نفسك المتضايقة تصرخ: ماذا أعمل؟ فتذكر أنه مكتوب أيضاً: «إِنَّ مَنْ يَسْمَعُ كَلاَمِي وَيُؤْمِنُ بِٱلَّذِي أَرْسَلَنِي فَلَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ، وَلاَ يَأْتِي إِلَى دَيْنُونَةٍ، بَلْ قَدِ ٱنْتَقَلَ مِنَ ٱلْمَوْتِ إِلَى ٱلْحَيَاةِ» (يوحنا 5: 24).
وتيقن بأنك لن تندم أبداً، لأنك أتيت إلى المسيح، ورجعت إلى الله به، هارباً من عالم واقع تحت ثقل الدينونة